فصل: شهـر شعبان وردت الأخبار من ثغر سكندرية بوصول باشا إلى الثغر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **


 شهـر شعبان وردت الأخبار من ثغر سكندرية بوصول باشا إلى الثغر

واسمه محمد باشا السلحدار واليًا على مصر فنزل الباشا القديم من القلعة إلى القصر بشاطئ النيل‏.‏

وفيـه وصلـت الأخبـار بـأن سليمـان بـك وإبراهيـم بـك رجعـوا مـن ناحيـة البحيرة إلى كندتا وجلسوا هناك وأرسلوا جوابات إلى الأمراء بمصر بذلك وأنهم يطلبون أن يعينون لهم ما يتعيشون به‏.‏

وفيه أرسلوا خلعة إلى عثمان بك الشرقاوي بأن يستقر حاكمًا بجرجا وطلبوا مصطفى بك وسليمان بك أبا نبوت وعثمان بك الأشقر للحضور إلى مصر فحضروا واستقر عثمان بك الشرقاوي بجرجا‏.‏

وفي غرة رمضان هرب سليمان بك الأغا وإبراهيم بك الوالي من طندتا وعدوا إلى شرقية بلبيس ومروا من خلف الجبل وذهبوا إلى جهة الصعيد ورجع علي كتخدا ويحيى كتخدا سليمان بك إلى مصر بالحملة والجمال وبعض مماليك وأجناد‏.‏

وفي أواخر رمضان هرب أيضًا أيوب بك من المنصورة وذهب إلى الصعيد أيضًا وتواترات الأخبـار بأنهـم اجتمعـوا مـع بعضهـم واتفقـوا على العصيان فأرسلوا لهم محمد كتخدا أباظة وأحمد أغا جمليان وطلبوهم إلى الصلح ويعينون لهم أماكن يقيمون بها ويرسلون لهم احتياجاتهم فأتوا ذلك فطلبوا عثمان بك الشرقاوي ومصطفى بك للحضور فامتنعا أيضًا وقالا‏:‏ لا نحضر ولا نصلح إلا أن رجع إخواننا رجعنـا معهـم ويـردون لهـم أمرياتهـم وبلادهـم وبيوتهـم ويعطلـوا مـن صنجقوه وأمروه عوضهم‏.‏

فلما حضر الجواب بذلك شرعوا في تجهيز تجريدة وأخذوا يفتشون أماكن الأمراء المذكورين فأخذوا ما وجدوه بمنزل مصطفى بك واتهموا أناسًا بأمانات وودائـع لمصطفـى بـك وعثمـان بـك الشرقـاوي منهـم الدالي إبراهيم وغيره فجمعوا بهذه النكتة أموالًا كثيرة حقًا وباطلًا‏.‏

وفي يوم الخميس عشرين شهر شوال كان خروج المحمل والحجاج وأمير الحاج مصطفى بك الكبير ولمـا انقضـى أمـر الحـج بـرزوا للتجريـدة وأميرهـا إبراهيـم بـك الكبيـر وجمعـوا المراكـب وحجزوهـا مـن أربابهـا وعطلـوا أسباب التجار والمسافرين وجمعوا الأموال كما تقدم من المصادرات والمتلزمين والفلاحين وغير ذلك وكان أمرًا مهولًا أيضًا وبعد أيام وصل الخبر بأن إبراهيم بك ضمهم للصلح واصطلح معهم وأنه واصل صحبتهم جميعًا‏.‏

وفـي سـادس عشـر ذي القعـدة حضـر إبراهيـم بـك ووصـل بعـده الجماعـة ودخلوا إلى مصر وسكنوا فـي بيـوت صغـار مـا عـدا عثمـان بـك ومصطفـى بـك فإنهـم نزلـوا في بيوتهم وحضر صحبتهم أيضًا علـي بـك وحسيـن بـك الاسمعيليـة فلـم يعجـب مـراد بـك مـا فعلـه إبراهيـم بك ولكن أسره في نفسه ولم يظهره وركب للسلام على إبراهيم بك فقط في الخلاء ولم يذهب إلى أحد من القادمين وسكـن الحـال علـى ذلـك أيامـًا وشـرع إبراهيـم بـك فـي إجـراء الصلـح وصفاء الخاطر بينهم بين مراد بك وأمرهم بالذهاب إليه فذهبوا إليه وسلموا عليه ثم ركب هم الآخر إليهم ما عدا الثلاثة المعزوليـن وكـل ذلـك وهـو ينقـل فـي متـاع بيتـه وتعزيـل مـا فيـه ثـم إنـه ركـب فـي يـوم الجمعة وعدى إلى جزيرة الذهب وتبعه كشافـه وطوائفـه وأرسـل إلـى بولـاق وأخـذ منهـا الـأرز والغلـة والشعيـر والبقسمـاط وغيـر ذلـك فأرسـل لـه إبراهيـم بك الجين بك وسليمان بك أبا نبوت ليردوه عن ذلك فنهرهـم وطردهـم فرجعـوا ثـم إنـه عـدى إلـى ناحيـة الشـرق وذهـب إلـى قبلـي وتبعـه أغراضه وأتباعه وحملته من البر والبحر‏.‏

وفـي هـذه السنة قصر مد النيل وانهبط قبل الصليبة بسرعة فشرقت الأراضي القبلية والبحرية وعزت الغلال بسبب ذلك وبسبب نهب الأمراء وانقطاع الوارد من الجهة القبلية وشطح سعر القمح إلى عشرة ريالات الأردب واشتد جوع الفقراء‏.‏

ووصل مراد بك إلى بني سويف وأقام هناك وقطع الطريق على المسافرين ونهبوا كل ما مر بهم في المراكب الصاعدة والهابطة‏.‏

من مات في هذه السنة من الأعيان توفي الفقيه النبيه العمدة الفاضل حاوي أنواع الفضائل الشيخ أحمد ابن الشيخ الصالح شهاب الدين أحمد بن محمد السجاعي الشافعي الأزهري ولد بمصر ونشأ بها وقرأ على والده وعلى كثيـر مـن مشايـخ الوقـت وتصـدر للتدريـس فـي حياة أبيه وبعدموته في مواضعه وصار من أعيان العلماء وشارك في كل علم وتميز بالعلوم الغريبة ولازم الوالد وأخذ عنه علم الحكمة والهداية وشرحها للقاضي زاده قراءة بحث وتحقيق والجغميني ولقط الجواهر والمجيب والمقنطر وشرح أشكال التأسيس وغير ذلك وله في تلك الفنون تعاليق ورسائل مفيدة وله براعة في التأليف ومعرفة باللغة وحافظة في الفقه‏.‏

ومن تآليفه شرح على دلائل الخيرات كالحاشية مفيد وشرح على أسماء الله الحسنى قرظ عليه الشيخ عبد الله الأدكاوي رحمه الله تعالى هذا وكان ممن منحه الله أسرارها وأظهر أنوارها فأوضح من معانيها ما خفي ومنح طلابها كنزًا يتنافس في مثله أنبل الفضلاء وأفضل النبلاء أحمد الاسم محمود الصفات على الفعل حسن القول والذات نجل العالم العلامة العمدة الفهامة كعبة الأفضال وقبلة الإجلال من تقصر عن تعداد محاسنه ولو طولت باعي مولانا الشيخ أحمد السجاعي حفظ الله عليه نجله الرشيد وأراه منه ما يسـر القريـب والبعيـد وحيـن لمحت عيني ما كتب مما حقه أن يرقم بدل الحبر بالذهب عوذته بالله من عين كل حسود وعلمت أنه إن شاء الله تعالى سيسود وتطأ أخمصه أعناق الأسود‏.‏

وسمع المترجم معنا كثيرًا على شيخنا السيد محمد مرتضى من الأمالي وعدة مجالس من البخاري وجـزء بـن شاهـد الجيـش والعوالـي المرويـة عـن أحمـد عـن الشافعـي عن مالك عن نافع عن ابن عمر المسمـاة بسلسلـة الذهـب وغيـر ذلـك‏.‏

ومـن فوائـد المترجم أنه رأى في المنام قائلًا يقول له‏:‏ من قال كـل يـوم يا الله الجبار يا قهار يا شديد البطش ثلثمائة وستين مرة أمن من الطاعون‏.‏

توفي ليلة الاثنين سادس عشر صفر من السنة بعد أن تعلـل بالاستسقـاء وصلـي عليـه بالغـد بالجامـع الأزهر ودفن عند أبيه بالبستان رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الشيخ الصالح الناسك الصوفي الزاهد سيدي أحمد بن علي ابن جميل الجعفري الجولي السوسـي مـن ولـد جعفـر الطيار ولد بالسوس واشتغل بالعلم قليلًا على علماء بلاده ثم ورد إلى مصر في 1182 فحج ورجع وقرأ معنا على الشيخ الوالد كثيرًا من الرياضيات مع مشاركة سيدي محمد وسيدي أبـي بكـر ولـدي الشيـخ التـاودي بـن سـودة حيـن وردا مـع أبيهمـا فـي تلـك السنـة للحج والشيخ سالم القيرواني ثم غلب عليه الجذب فساح وذهب إلى الروم مجاهدًا وأصيب بجارحـات فـي بدنـه وعولـج حتى برأ وتعلم اللغة التركية وعرضت عليه الدنيا فلم يقبلها والغالب عليـه إخفـاء الحـال‏.‏

وورد إلـى مصـر فـي سنـة إحـدى وتسعيـن وتـزوج بمصـر وأقـام بهـا مـع كمال العفة والديانة سلامة الباطن والانجماع عن الناس مع صفاء الخاطر والذوق المتين والميل إلى كتب الشيـخ الأكبـر والشعرانـي وزيـارة القرافتيـن فـي كـل جمعـة علـى قدميـه‏.‏

أحببـت لقـاء الله تعالى توفي في ثالث ربيع الأول من السنة ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

ومـات العمـدة العلامـة والحبـر الفهامة قدوة المتصدرين ونخبة المفهمين النبيه المتفنن الشيخ محمد بن إبراهيـم بـن يوسف الهيتمي السجيني الشافعي الأزهري الشهير بأبي الإرشاد ولد سنة 1154 وحفظ القرآن وتفقه على الشيخ المدابغي والبراوي والشيخ عبد الله السجيني وحضر دروس الشيخ الصعيدي وغيـره وأجـازه أشيـاخ العصـر وأفتـى ودرس وتولـى مشيخـة رواق الشراقـوة بالأزهـر بعـد وفـاة خالـه الشيـخ عبـد الـرؤوف واشتهـر ذكره وانتظم في عداد المشايخ المشار إليهم بالأزهـر وفـي الجمعيـات والمجالـس عنـد الأمـراء ونظـار الأزهر وفي الأخبار وله مؤلفات في الفنون وكتـب حاشيـة علـى الخطيـب علـى أبـي شجـاع إلا أنهـا لم تكمل ورسائل في مستصعبات المسائل بالمنهج وصنف رسالة تتعلق بنداء المؤمنين بعضهم بعضًا في الجنة‏.‏

توفي في أواخر القعدة‏.‏

ومات الإمام الهمام والعلامة المقدام المتقن المتفنن المفيد الشيخ يوسف الشهير برزة الشافعـي الأزهري أحد العلماء المحصلين والأجلاء المفيدين تفقه على الشيخ العلامة الشيخ أحمد رزة وإليه انتسب وبه اشتهر وحضر على كل من الشيخ الحفناوي والشيخ أحمد البجيرمي والشيخ عيسى البرواي ودرس الفقه والمعقول بالأزهر وأفاد وأفتى وصار في عداد المتصدرين المشار إليهـم مـن الانجمـاع والحشمـة والكمـال والرئاسـة وحسن الحال ولم يتداخل كغيره في الأمور المخلة‏.‏

ولم يزل مقبلًا على شأنه حتى توفي في عاشر جمادى الأولى من السنة‏.‏

ومـات الشيخ الصالح الورع علي بن عبد الله مولى الأمير بشير جلبه مولاه من بلاد الروم وأدبه وحبب إليه السلوك فلازم الشيخ الحفني ملازمة كلية وأخذ عنه الطريق وحضر دروسه وسمع الصحيـح علـى السيـد مرتضى بتمامة في منزله بدرب الميضأة بالصليبة وكذلك مسلم وأبو داود وغير ذلك من الأجزاء الحديثة ومسلسلات بن عقيلة بشروطها وغالبها بقراءة السيد حسين الشيخونـي‏.‏

وكـان إنسانـًا حسنـًا حلو المعاشرة كثير التودد لطيف الصحبة مكرمًا محسنًا خيرًا له بر وصدقات خفية توفي في يوم الأحد تاسع عشرين رجب بعد أن تعلل بالفتق عن كبر وصلي عليه بسبيل المؤمنين ودفن بالقرب من شيخنا محمود الكردي بالصحراء‏.‏

وكان منور الوجه والشيبة وعليه جلالة ووقار وهيبة يلوح عليه سيما الصلاح والتقوى رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الشيخ الصالح عيسى بن أحمد القهاوي الوقاد بالمشهد الحسيني وخادم النعال بالموضع المذكور كان رجلًا مسنًا سخيًا بما يملك مطعامًا للواردين من الغرباء المنقطعين وأدرك جماعة من الصالحين وكان يحكي لنا عليهم أمورًا غريبة وله مع الله حال وفي فهم كلام القوم ذوق حسن وللناس فيـه اعتقـاد عظيـم‏.‏

وفـي أخـرة أعجـزة الهـرم والقعـود فتوجـه إلـى طندتـا فـي آخـر ربيـع الثانـي ومكث هناك برحاب سيدي أحمد البدوي إلى أن توفي يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الثانيـة ودفـن عند مقام الولي الصالح سيدي عز الدين خارج البلد في موضع كان أعده السيد محمد مجاهد لنفسه فلم يتفق دفنه فيه‏.‏

ومات العلامة الفاضل المحدث الصوفي الشيخ أحمد بن أحمد بن أحمد ابن جمعة البجيرمـي الشافعـي قـرأ علـى أبيـه وحضـر درس العشمـاوي والعزيـزي والجوهـري والشيـخ أحمـد سابق والحفني وآخرين ودرس واكب على إقراء الحديث وألف في الفن وانتفع به الناس وكان يسكن في خانقاه سعيد السعداء مع سكون الأخلاق والانجماع عن الناس وملازمة محله ولا زال يفيد ويسمع حتى وافاه الحمام في يوم الجمعة ثاني رمضان وكانت جنازته خفيفة لاشتغال الناس بالصيام وكان يخبر والده أن جنازته كانت خفيفة رحمه الله‏.‏

ومـات الفاضـل المبجل سيدي عيسى جلبي بن محمود بن عثمان ابن مرتضى القفطانجي الحنفي المصري ولد بمصر ونشأ صالحًا في عفاف وصلاح وديانة وملازمة لحضـور دروس الأشيـاخ وتفقه على فضلاء وقته مثل الشيخ الوالد والشيخ حسن المقدسي وأخذ العربية والكلام عن الشيخ محمـد الأميـر والشيـخ أحمـد البيلـي وغيرهمـا واقتنـى كتبـًا نفيسـة وكـان منزلـه مـوردًا للفضـلاء وكـان يعـزم عليهـم ويعمل لهم الضيافات في كل عام ببستان خارج مصر يعرف ببستان القفطانجي ورثه عن آبائه وكان نعم الرجل مودة وصيانة رحمه الله تعالى وسامحه‏.‏

سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فيهـا فـي المحـرم سافـر مـراد بـك إلـى منيـة بـن خصيـب مغضبـًا وجلـس هنـاك‏.‏

وفيـه حضر إلى مصر محمـد باشـا والـي مصـر فأنزولـه بقصـر عبـد الرحمـن كتخـدا بشاطـئ النيـل فأقـام بـه يوميـن ثـم عملـوا له موكبًا وطلع إلى القلعة من تحت الربع على الدرب الأحمر‏.‏

وفي منتصفه اتفق رأي إبراهيم بك والأمراء الذين معه علـى إرسـال محمـد أفنـدي البكـري والشيـخ أبـي الأنوار شيخ السادات والشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهر إلى مراد بك ليأخذوا خاطره ويطلبوه للصلح مع خشادشينه ويرجع إليهم ويقبلوا شروطه ما عدا إخراج أحد من خشداشينهـم‏.‏

فلمـا سافـروا إليـه وواجهـوه وكلمـوه في الصلح تعلل بأعذار وأخبر أنه لم يخرج من مصر إلا هروبًا خوفًا على نفسه فإنه تحقق عنده توافقهم على غدره فإن ضمنتم وحلفتم لي بالأيمـان أنـه لا يحصل لي منهم ضرر وافقتكم على الصلح وإلا فدعوني بعيدًا عنهم‏.‏

فقالوا له‏:‏ لسنا نطلع على القلوب حتى نحلف ونضمن ولكن الذي نظنه ونعتقده عدم وقوع ذلك بينكم لأنكم أخوة ومقصودنا الراحة فيكم وبراحتكم ترتاح الناس وتأمن السبل فأظهر الامتثال ووعد بالحضـور بعـد أيـام وقـال لهـم‏:‏ إذا وصلتـم إلـى بنـي سويـف ترسلـون لـي عثمـان بـك الشرقـاوي وأيوب بك الدفتردار لأشترك عليهم شروطي فإن قبلوها توجهت معهم وإلا عرفت خلاصي معهم‏.‏

وانفصلـوا عنـه علـى ذلـك وودعـوه وسافـروا وحضـروا إلـى مصر في ليلة الجمعة ثالث عشرين شهر وفي ذلك اليوم وصل الحجاج إلى مصر ودخل أمير الحج مصطفى بك بالمحمل في يوم الأحد‏.‏

وفـي يـوم السـب مستهـل ربيـع الـأول خـرج الأمـراء إلـى ناحيـة معادي الخبير وحضر مراد بك إلى بر الجيـزة وصحبتـه جمـع كبيـر مـن الغز والأجناد والعربان والغوغاء من أهل الصعيد والهواراة ونصبوا خيامهم ووطاقهم قبالتهم في البر الآخر فأرسل إليه إبراهيم بك عبد الرحمـن بـك عثمـان وسليمـان بـك الشابـوري وآخريـن فـي مركـب فلمـا عـدوا إليـه لـم يـأذن لهـم في مقابلته وطردهم ونزل أيضـًا كتخـدا الباشـا وصحبتـه اسمعيـل أفنـدي الخلوتـي فـي مراكـب أخـرى ليتوجهـوا إليه أيضًا لجريان الصلح فلما توسطوا البحر ووافق رجوع الأوليـن ضربـوا عليهـم بالمدافـع فكـادت تغـرق بهـم السفن ورجعوا وهم لا يصدقون بالنجاة‏.‏

فلما رأى ذلك إبراهيم بك ونظر امتناعه عن الصلح وضربـه بالمدافـع أمـر هو الآخر بضرب المدافع عليهم نظير فعلهم‏.‏

وكثر الرمي بينهم من الجهتين على بعضهم البعض وامتنع كل من الفريقين عن التعدية إلى الجهة الأخرى وحجزوا المعادي من الطرفيـن‏.‏

واستمـر الحـال بينهـم علـى ذلك من أول الشهر إلى عشرين منه واشتد الكرب والضنك على الناس وأهـل البلـاد وانقطعـت الطـرق القبليـة والبحريـة بـرًا وبحـرًا وكثـر تعـدي المفسديـن وغلت الأسعار وشح وجود الغلال وزادت أسعارها‏.‏

وفي تلك المـدة كثـر عبـث المفسديـن وأفشـح جماعـة مـراد بـك فـي النهـب والسلـب في بر الجيزة وأكلوا الزروعات ولم يتركوا على وجه الأرض عودًا أخضر وعين لقبض الأموال من الجهات وغرامات الفلاحين وظن الناس حصول الظفـر لمـراد بـك واشتـد خوف الأمراء بمصر منه‏.‏

وتحدث الناس بعزم إبراهيم بك على الهروب فلما كان ليلة الخميس المذكور أرسل إبراهيم بك المذكور خمسة من الصناجق وهم سليمان بـك الأغـا وسليمـان أبـو نبـوت وعثمـان بـك الأشقر وإبراهيم بك الوالي وأيوب بك فعدوا إلى البر الآخـر بالقـرب من انبابة ليلًاوساروا مشاة فصادفوا طابورًا فضربوا عليهم بالبندق فانهزموا منهم وملكوا مكانهم وذلك بالقرب من بولاق التكرور كل ذلك والرمي بالمدافع متصل من عرضي إبراهيـم بـك‏.‏

ثـم عـدى خلفهـم جماعـة أخرى ومعهم مدفعان وتقدموا قليلًا من عرضي مراد بك وضربوا على العرضي بالمدفعين فلم يجبهم أحدًا فباتوا على ذلك وهم على غاية من الحذر والخـوف‏.‏

وتتابـع بهـم طوائفـه وخيولهم فلما ظهر نور النهار نظروا فوجدوا العرضي خاليًا وليس به أحد وارتحل مراد بك ليلًا وترك بعض أثقاله ومدافعه فذهبوا إلى العرضي وأخذوا ما وجدوه وجلسوا مكانه ونهب أوباشه المراكب التي كانت محجوزة للناس‏.‏

وعدى إبراهيم بك وتتابعوا في التعدية وركبوا خلفهم إلى الشيمي فلم يجدوا أحدًا فأقاموا هناك السبت والأحد والاثنين والثلاثاء ورجع إبراهيم بك وبقية الأمراء إلى مصر ودخلوا بيوتهم‏.‏

وانقضت هذه الفتنـة الكذابـة علـى غيـر طائـل ولـم يقع بينهم مصاف ولا مقاتلة وهرب مراد بك وذهب بمن معه وفي أواخر شهر جمادى الأولى اتفق رأي إبراهيم بك على طلب الصلح مع مراد بك فسافر لذلـك لاجيـن بـك وعلـي أغا كتخدا جاووجان وسبب ذلك أن عثمان بك الشرقاوي وأيوب بك ومصطفـى بـك وسليمـان بـك وإبراهيـم بـك الوالـي تحزبـوا مـع بعضهم وأخذوا ينقضون على إبراهيم بك الكبير واستخفوا بشأنه وقعدوا له كل مرصد وتخيل منهم وتحرز وجرت مشاجرة بين أيوب بك وعلي أغا كتخدا جاوجان بحضرة إبراهيم بك وسبه وشتمه وأمشك عمامته وحل قولانـه وقـال لـه‏:‏ ليـس هـذا المنصـب مخلـدًا عليـك فاغتـاظ إبراهيـم بك لذلك وكتمه في نفسه وعز علـي علـي أغا لأنه كان بينه وبين مراد بك فاجتمع إليه الأمراء وتكلموا معه فقال‏:‏ نصطلح مع أخينـا أولـى مـن التشاحـن ونزيل الغل من بيننا لأجل راحتنا وراحة الناس ويكون كواحد منا وإن حصـل منـه خلـل أكـون أنـا وأنتـم عليـه‏.‏

وتحالفـوا علـى ذلك وسافر لاجين بك وعلي أغا وبعد أيام حضـر حسـن كتخـدا الجريـان كتخـدا مـراد بـك إلـى مصـر واجتمع بإبراهيم بك ورجع ثانيًا وأرسل إبراهيـم بـك صحبتـه ولـده مـرزوق بك طفلًا صغيرًا ومعه الدادة والمرضعة فلما وصلوا إلى مراد بك أجاب بالصلح وقدم لمرزوق بك هدية وتقادم ومن جملتها بقرة ولابنتها رأسان‏.‏

وفـي عاشر رجب حضر مرزوق بك وصحبته حسن كتخدا الجربان فأوصله إلى أبيه ورجع ثانيًا إلى مراد بك وشاع الخبر بقدوم مراد بك وعمل مصطفى بك وليمة وعزم من بصحبته وفـي ثانـي يـوم اجتمعوا عند إبراهيم بك وقالوا له‏:‏ كيف يكون قدوم مراد بك ولعله لا يستقيم حاله معنا فقال لهم‏:‏ حتى يأتي فإن استقام معنا فيها وإلا أكون أنا وأنتم عليه‏.‏

فتحالفـوا وتعاهدوا وأكدوا المواثيق‏.‏

فلما كان يوم الجمعة وصل مراد بك إلى غمازة فركب إبراهيم بك علـى حيـن غفلـة وقـت القائلـة فـي جماعتـه وطائفتـه وخـرج إلـى ناحيـة البساتيـن ورجـع من الليل وطلع إلـى القلعـة وملك الأبواب ومدرسة السلطان حسن والرميلة والصليبة والتبانة وأرسل إلى الأمراء الخمسة يأمرهم بالخروج من مصر وعين لهم أماكن يذهبون إليها فمنهم من يذهب إلى دمياط ومنهم من يذهب إلى المنصورة وفارسكور فامتنعوا من الخروج واتفقوا على الكرنكة والخلاف ثـم لـم يجـدوا لهـم خلاصـًا بسبـب أن إبراهيـم بـك ملـك القلعـة وجهاتها ومراد بك واصل يوم تاريخه وصحبته السواد الأعظم من العساكر والعربان ثم إنهم ركبوا وخرجوا بجمعيتهـم إلـى ناحيـة القليوبية ووصل مراد بك لزيارة الإمام الشافعي فعندما بلغه خبر خروجهم ذهب من فوره من خلـف القلعـة ونـزل علـى الصحـراء وأسـرع فـي السيـر حتـى وصـل إلـى قناطر أبي المنجا ونزل هناك وأرسل خلفهم جماعة فلحقوهم عند شبراشهاب وأدركهم مراد بك والتطموا معهم فتقنطـر مراد بك بفرسه فلحقوه وأركبوه غيره فعند ذلـك ولـى راجعـًا وانجـرح بينهـم جماعـة قلائـل وأصيـب سليمـان بـك برصاصـة نفـذت مـن كتفـه ولـم يمـت ورجـع مـراد بـك ومـن معه إلى مصر على غير طائل وذهب الأمراء الخمسة المذكورون وعدوا على وردان وكان بصحبتهم رجـل مـن كبـار العـرب يقـال لـه طرهونـه يدلهـم علـى الطريـق الموصلـة إلـى جهـة قبلـي فسـار بهـم في طريق مقفرة ليس بها ماء ولا حشيش يومًا وليلة حتى كادوا يهلكون من العطش وتأخر عنهم أناس من طوائفهم وانقطعوا عنهم شيئًا فشيئًا إلى أن وصلوا إلى ناحية سقارة فرأوا أنفسهم بالقرب من الأهرام فضاق خناقهم وظنوا الوقوع فأحضروا الهجن وأرادوا الركوب عليها والهروب ويتركوا أثقالهـم فقامـت عليهم طوائفهم وقالوا لهم‏:‏ كيف تذهبون وتتركونا مشتتين‏.‏

وصار كل من قدر علـى خطـف شـيء أخـذه وهـرب فسكنـوا عن الركوب وانتقلوا من مكانهم إلى مكان آخر‏.‏

وفي وقت الكبكبة ركب مملوك من مماليكهم وحضر إلى مـراد بـك وكـان بالروضـة فأعلمـه الخبـر فأرسـل جماعـة إلـى الموضـع الـذي ذكـره لـه فلـم يجـدوا أحدًا فرجعوا واغتم أهل مصر لذهابهم إلى جهـة قبلـي لمـا يترتـب علـى ذلك من التعب وقطع الجالب مع وجود القحط والغلاء‏.‏

وبات الناس في غم شديد‏.‏

فلما طلع نهار يوم الأربعاء حادي عشرين رجب شاع الخبر بالقبض عليهم وكـان مـن أمرهم أنهم لما وصلوا إلى ناحية الأهرام ووجدوا أنفسهم مقابلين البلد أحضروا الدليل وقالوا له‏:‏ انظر لنا طريقًا تسلك منه فركب لينظر في الطريق وذهب إلى مراد بك وأخبره بمكانهم فأرسل لهم جماعة فلمـا نظروهـم مقبليـن عليهـم ركبـوا الهجـن وتركـوا أثقالهـم وولـوا هاربين وكانوا كمنوا لهم كمينًا فخرج عليهم ذلك الكمين ومسكوا بزمامهم من غير رفع سلاح ولا قتال وحضروا بهم إلى مراد بك بجزيرة الذهب فباتوا عنده ولما أصبح النهار أحضر لهم مراد بك بجزيرة الذهب فباتوا عنده ولما أصبح النهار أحضر لهم مراد بك مراكب وأنزل كل أمير في مركب وصحبته خمسة مماليك وبعض خدام وسافروا إلى جهة بحري فذهبوا بعثمان بـك وأيـوب بـك إلـى المنصـورة ومصطفى بك إلى فارسكور وإبراهيم بك الوالي إلى طندتا وأما سليمان بك فاستمر ببولاق التكرور حتى برأ جرحه‏.‏

وفي منتصف شهر رمضان اتفق الأمراء المنفيون على الهروب إلى قبلي فأرسلوا إلى إبراهيم بك الوالي ليأتي إليهم من طندتا وكذلك إلى مصطفى بك من فارسكور وتواعدوا على يوم معلـوم بينهـم فحضـر إبراهيـم بـك إلـى عثمـان بـك وأيـوب بـك خفيـة فـي المنصورة وأما مصطفى بك فإنه نزل في المراكب وعدى إلى البر الشرقي بعد الغروب وركب وسافر فركب خلفه رجل يسمى طه شيخ فارسكور وكان بينه وبين مصطفى بك خرازة وأخذ صحبته رجلًا يسمى الأشقر في نحو ثلثمائة فارس وعدوا خلفه فحلقوه آخر الليل والطريق ضيقة بين البحر والأرز المزروع فلم يمكنهم الهروب ولا القتال‏.‏

فأراد الصنجـق أن يذهـب بمفـرده فدخـل فـي الـأرز بفرسه فانغرز في الطين فقبضوا عليه هو وجماعته فعروهم وأخذوا ما كان معهم وساقوهم مشـاة إلـى البحـر وأنزلوهـم المراكـب وردوهـم إلـى مكانهـم محتفظيـن عليهم‏.‏

وأرسلوا الخبر إلى مصر بذلـك‏.‏

وأمـا الجماعـة الذيـن فـي المنصـورة فإنهـم انتظـروا مصطفـى بـك فـي الميعـاد فلـم يأتهم ووصلهم الخبـر بمـا وقـع لـه فركب عثمان بك وإبراهيم بك وساروا وتخلف أيوب بك المنصورة فلما قربوا من مصر سبقتهم الرسل إلى سليمان بك فركب من الجيزة وذهب إليهما وذهبوا إلى قبلي وأرسل مراد بك محمد كاشف الألفي وأيوب كاشف فأخـذا مصطفـى بـك مـن فارسكـور وتوجها به إلى ثغر سكندرية وسجنوه بالبرج الكبير‏.‏

وعرف من أجل ذلك بالإسكندراني‏.‏

وأحضـروا أيـوب بـك إلـى مصـر وأسكنـوه فـي بيـت صغيـر وبعـد أيـام ردوه إلى بيته الكبير وردوا له الصنجقية أيضًا في منتصف شوال‏.‏

وفـي يـوم الاثنين سادس شهر شوال الموافق التاسع عشر مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك ونزل الباشا يوم الثلاثاء في عربة وكسر السد على العادة‏.‏

وفي يـوم الاثنيـن حـادي عشريـن شـوال كـان خـروج المحمـل صحبـة أميـر الحـاج مصطفـى بـك الكبيـر فـي موكـب حقيـر جـدًا بالنسبـة للمواكـب المتقدمـة ثـم ذهـب إلى البركة في يوم الخميس وقد كان تأخر له مبلغ من مال الصرة وخلافها فطلب ذلك من إبراهيم بك فأحاله على مراد بك من الميري الذي طرفه وطرف أتباعه وأحال عليه أمير الحاج وركب من البركة راجعًا إلى مصر وتركه وإياه فلم يسع مراد بك غلا الدفع وتشهيل الحج وعاد إلى مصر وخرج إلى قصره بالروضة وأرسل إلى الجماعة الذين بالوجه القبلي فلما علم إبراهيم بك بذلك أرسل إليه يستعطفـه وترددت بينهما الرسل من العصر إلى بعد العشاء ونظر إبراهيم بك فلم يجد عنده أحدًا من خشداشينـه‏.‏

واجتمـه وأكلهـم علـى مـراد بك فضاق صدره وركب إلى الرميلة فوقف بها ساعة حتى أرسل الحملة صحبة عثمان بك الأشقر وعلي بك أباظة وصبر حتى ساروا وتقدموا عليـه مسافـة ثـم سـار نحـو الجبـل وذهـب إلـى قبلـي وصحبتـه علـي أغـا كتخـدا الجاويشيـة وعلـي أغا مستحفظان والمحتسب وصناجقه الأربعة فلما بلغ مراد بك ركوبه وذهابه ركب خلفهم حصة من الليل ثم رجع إلى مصر وأصبح منفردًا بها وقلد قائد أغا أغات مستحفظان وصالح أغا الوالي القديم وجعله كتخدا الجاويشية وحسن أغا كتخدا ومصطفى بك محتسب وأرسل إلى محمد كاشف الألفي ليحضر مصطفى بك من محبسه بغثر إسكندرية ونادى بالأمان في البلد وزيادة وزن الخبز وأمر بإخراج الغلال المخزونة لتباع على الناس‏.‏

وفـي ليلـة الثلاثـاء خامـس القعـدة حضـر مصطفـى بـك ونـزل فـي بيتـه أميـرًا وصنجقـًا علـى عادته كما كان‏.‏

وفيه قلد مراد بك مملوكه محمد كاشف الألفي صنجقًا وكذلك مصطفى كاشـف الإخميمـي وفـي يـوم الأحـد سابـع عشـر القعـدة حضـر عثمـان بك الشرقاوي وسليمان بك الأغا وإبراهيم بك الوالي وسليمان بك أبو نبوت وكان مراد بك أرسل يستدعيهم كما تقدم‏.‏

فلما حضروا إلى مصر سطنوا بيوتهم كما كانوا على إمارتهم‏.‏

وفي أواخره وصل واحد أغا من الدولة وبيده مقرر للباشا على السنة الجديدة فطلب الباشا الأمراء لقراءاته عليهم فلمع يطلع منهم أحد وأهمل ذلك مراد بك ولم يلتفت إليه‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشر الحجة رسم مراد بك بنفي رضوان رضوان بك قرابة علي بك الكبير الذي كان خامر على اسمعيل بك وحسن بك الجداوي وحضر مصر صحبة مراد بك كمـا تقـدم وانضـم إليـه وصار من خاصته فلما خرج إبراهيم بك من مصر أشيع أنه يريد صلحه مع اسمعيل بك وحسن بك فصار رضوان بك كالجملة المعترضة فرسم مراد بك بنفيه فسافر من ليلته إلى الإسكندرية‏.‏

وفـي يـوم السبـت خامـس عشـرة أرسـل مـراد بـك إلى الباشا وأمره بالنزول فأنزلوه إلى قصر العيني معـزولًا وتولى مراد بك قائم مقام وعلق الستور على بابه فكانت ولاية هذا الباشا أحد عشر شهرًا سوى الخمسة أشهر التي أقامها بغثر سكندرية وكانت أيامه كلها شدائد ومحنًا وغلاء‏.‏

وفي أواخـر شهـر الحجـة شـرع مـراد بـك فـي إجـراء الصلـح بينـه وبيـن إبراهيـم بـك فأرسـل لـه سليمـان بك الأغا والشيخ أحمد الدردير ومرزوق بك ولده فتهيئوا وسافـروا فـي يـوم السبـت ثامـن عشرينه‏.‏